تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب : الملك العضوض .. والأثمان الباهظة (12)

موت أيوب يحطم قلب ابيه سليمان

لاشك أن اختيار عمر بن عبد العزيز للخلافة كان واحدا من أفضل الإختيارات في تاريخ الإسلام .. لكن هذا الاختيار لم يدر بذهن سليمان بن عبدالملك .. ولولا وجود الوزير العالم الفقيه رجاء بن حيوة في مرض موت سليمان لتغيرت الأمور، فمن الصعب جدا علي ملك أن ينقل باختياره وبمحض إرادته السلطة من بيت أبيه وإخوته إلي بيت عمه.

ولم يكن سليمان قد ترك ولاية العهد شاغرة فقد ولي عهده إبنه أيوب، ولم تكن هناك أدني مشكلة في ذلك لأن سليمان تولي الخلافة وليس له ولي عهد، ومن حقه أن يختار من يشاء وكان طبيعيا وحسب الفطرة الإنسانية وعادة الملوك من قبله أن ينحاز ويميل إلي ابنه، وهذا ما فعله، فاختار ابنه أيوب، لكنه مات قبل أبيه ببضعة أسابيع وفي رواية أخري قبل أبيه بعام كما جاء في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور.

ومن مواقف أيوب وهو ولي عهد أنه كان يوما عند أبيه ودخل عليهما عمر بن عبد العزيز، فجاء إنسان يطلب ميراثاً من بعض نساء الخلفاء، فقال سليمان: ما أخال النساء يرثن في العقار شيئاً، فقال عمر: سبحان الله! فأين كتاب الله؟ قال سليمان: يا غلام اذهب فائتني بسجل عبد الملك بن مروان الذي كتب في ذلك، فقال له عمر: لكأنك أرسلت إلى المصحف! ويبدو ان ردود عمر لم تعجب أيوب بن سليمان فقال: والله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين ثم لا يشعر حتى يفارقه رأسه.

قال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك وإلى مثلك فما يدخل على أولئك أشد مما خشيت أن يصيبهم من هذا، فقال سليمان لابنه أيوب: مه، ألأبي حفص تقول هذا؟ (كانت كنية عمر أبي حفص مثل جده العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووضح أن سليمان غضب من أسلوب كلام ابنه أيوب مع عمر ) قال عمر: والله لئن كان جهل علينا يا أمير المؤمنين ما حلمنا عنه.

قال الأصمعي: اشتد جزع سليمان بن عبد الملك على ابنه أيوب حتى جاءه المعزون من الآفاق (مات أيوب بالطاعون).

ولما دنت لحظة موت أيوب دخل عليه أبوه سليمان وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وسعد بن عقبة فجعل ينظر في وجهه، فخنقته العبرة (الدمعة)، وقال سليمان: ليست منكم خشية، فإني أجد في قلبي لوعة، إن أنا لم أبردها بعبرة خفت أن يتصدع كبدي. (هيبة الخلافة كانت تمنعه ان يظهر دموعه ولحظات ضعفه الإنسانية أمام أحد من الرعية لكن أمام هؤلاء المقربين المخلصين الوضع يختلف).

فقال له عمر: يا أمير المؤمنين، الصبر أولى بك فلا تحبطن.

قال ابن عقبة: فنظر سليمان إلي وإلى رجاء بن حيوة نظر مستعتب يرجو أن نساعده على ما أراد من البكاء، فأما أنا فكرهت آمره أو أنهاه، وأما رجاء فقال: يا أمير المؤمنين فافعل فإني لا أرى بذلك بأساً ما لم تأت من ذلك المفرط، وقد بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما مات ابنه إبراهيم واشتد عليه وجده وجعلت عيناه تدمعان قال: “تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون “.

قال: فأرسل سليمان عينيه، فبكى حتى ظننا أن نياط قلبه قد انقطع، قال: فقال عمر لرجاء: يا رجاء ما صنعت بأمير المؤمنين؟ قال: دعه يقضي من بكائه وطراً، فإنه إن لم يخرج من صدره ما ترى، خفت أن يأتي على نفسه.

قال: ثم جفت عبرته، فدعا بماء فغسل وجهه، وأقبل علينا، حتى قضى أيوب، وأمر بجهازه، وخرج يمشي أمام الجنازة، فلما دفناه، وقف ملياً ينظر إليه، وقال: السلام عليك يا أيوب

كنت لنا أنساً ففارقتنا … فالعيش من بعدك مر المذاق.

فقال له عمر: الصبر يا أمير المؤمنين، فإنه أقرب إلى الله وسيلة، وليس الجزع بمحيي من مات ولا راد ما فات.

قال: صدقت وبالله التوفيق.

موت أيوب لم يربك حسابات أبيه سليمان فقط، بل حطم قلبه أيضا وداهمه مرض الموت وهو في عنفوان الرجولة فقد كان سليمان وقتها في الثالثة والأربعين من عمره .. وكان رفيقه في ساعات موته وزيره المخلص الأمين رجاء بن حيوة الذي أشار علي سليمان بتولية عمر بن عبدالعزيز، ووضع خطة محكمة لتمرير هذا القرار الخطير علي إخوة سليمان الذين يرون أنفسهم الوريث الوحيد لسلطان أبيهم عبدالملك وجدهم مروان.

نكشف تفاصيل هذه الخطة في الحلقة المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى